لم يكن قادراً على السير أكثر من ذلك. عندما اقترب من صندوق القمامة تذكر أنه لم يأكل منذ أكثر من يوم. الشمس حارقة. لم يجد ظلًا يحتمي به من حرارتها الآخذة في لفح جسده حتى شعر أنه يكاد ينصهر. وما زاد شقاء أمره، ثقوب ملبسه التي سمحت للشمس بتوجيه سوطها مباشرة لجسده دون حائلٍ.
بعد محاولة فاشلة من البحث في صندوق القمامة عن أي شيء يمكن تناوله مهما كان عطِنًا، خلع حذاءه المهترئ، أسند ظهره إلى الرصيف ليحتمي جسده كله تقريبا بظل الصندوق. رغم ذلك، لم تتركه لفحات الهواء الساخن ينعم بالظل دون أن تلسع جلده الذي تراكمت عليه طبقات الغبار حتى أصبح داكنًا. أعياه التعب، وجد حينها النوم حلًا وحيدًا ليمر الوقت. ولكن كيف ينام وهو خاوي الجوف!
ظلّت السيارات تمر بجواره. ضجيج الشارع كما هو حتى في تلك الساعة الحارة. ولكن كل ذلك لم يمنع محاولته الحصول على ساعة أو قليل من النوم. بعد برهة، شعر بجسده يستسلم لسخونة الإسفلت ويتجاهلها. لم يمنعه من محاولة النوم غبار الشارع، أو عوادم السيارات، أو ضجيجها، أو حتى صراخ الناس والباعة الآتي من السوق القريب.
علت أصوات معدته. كاد يشعر بيد تقبض عليها بقوة. تساءل في نفسه بيأس: لم حتى النوم عصيّ عليه؟ لم يرد طعاماً أو شراباً. أراد أن تغفل عيناه ولو ساعة. هل هذا كثير! ولكن مرة أخرى، كيف لعينيه أن تغفلا ومعدته خاوية منذ يوم أو أكثر؟
سيتجاهل أصوات معدته، لفحات الهواء الملتهب، آلام جسده وخاصة قدميه من فرط التجوال في الطرقات، الحكة التي تنتشر في جسده كله حتى كاد أن يعتاد عليها، دموع عينيه التي يذرفها في عجز. سيتجاهل كل شيء لينام ولو ساعة.
****
هزت يد طفولية كتفه. لم ينتبه لها في المرة الأولى، لم يفتح عينيه ليتأكد. ظن أنها هلوسات التعب والحر. ولكنها هزت كتفه من جديد. أربع أو خمس هزات حتى استطاع أن يفيق من غيمة تعبه. لم يستطع لوهلة تبين صورة من يحادثه بعد أن اعتدل من نومه وجلس مسنداً ظهره لصندوق القمامة. ولكنه سمع صوتاً يقول: أنت كويس؟
تكرر السؤال أكثر من مرة دون أن يقول شيئاً. لم يكن قادراً على الرد من الإعياء. وحتى إن أراد أن يجيبه، فماذا يقول!
نظر لمن يحادثه، حاول أن يتبينه. وجده صبياً بين السادسة والثامنة من العمر. نظر إليه الصبي محاولًا مرة أخرى أن يكلمه ولكن لم يكن هناك أي رد. أعطاه الصبي بعض ثمرات فاكهة: كلها، هتبقى كويس.
كان به من الوهن مالم يجعله حتى راغباً في رفع الثمرات إلى فمه وقضمها. أخذها الصبي من بين يديه، قطع منها جزءاً تلو الآخر محاولاً جعل الرجل يأكل.
أدرك الرجل ما يريده الصبي ففتح فمه ببطء وسمح أن يدخل جوفه قطعة أو اثنتان. نظر بعين غائمة للصبي، وجده مبتسماً، ولكن يبدو أن حرارة الشمس قد أنهكته وجعلته يتعرّق. سأله: تاكل كمان؟
لم يقل الرجل أي شيء. فأعاد الصبي عليه السؤال ولكن ظل الأمر كما هو.
- أجيبلك مية؟
تذكر الرجل عطشه عندما سمع كلمة الماء. هز رأسه بالإيجاب. ابتسم الصبي وأخرج من حقيبة مدرسته زجاجة مياه باردة. فتحها له، ساعده على أن يصب منها في جوفه على مهل. ومع قطرت الماء الأولى، شعر الرجل كما لو أن جسده يعود من الموت. غيمة التعب أقل ثقلًا الآن.
- أجيبلك حاجة كمان؟
هزّ الرجل رأسه مجيباً بالنفي.
- أنا معايا فلوس أجيب أكل.
تكرّرت هزة الرأس مرة أخرى.
- طيب. هجيلك تاني بكرا وأنا راجع من المدرسة.
ظهر على وجه الرجل شبح ابتسامة باهتة. رفع يده بصعوبة ممرّراً إياها على شعر الصبي. في اليوم التالي عندما مرّ لم يجد الرجل، ولكنه وجد زجاجة الماء ممتلئة.